فض الأمن اليمني اعتصاماً سلمياً بالقوة يوم 25 ديسمبر الماضي عندما اتجهت مجموعة من الشباب نحو دار الرئاسة مطالبين بقرارت صريحة لعزل أحمد علي عبدالله صالح وعلي محسن من الجيش، وغالب القمش مدير جهاز الأمن السياسي. هذا الخبركان سيبدو مفهوماً قبل أكثر من عام، لكن بعد تنحي الرئيس الذي ثارت ضده الجماهير فأن الخبر يدعو للاستنكار.
فهؤلاء الشباب جاؤوا لإحياء الذكرى الأولى لمسيرة الحياة الراجلة من مدينة تعز لصنعاء بمسافة 280 كم على طريق جبلي وعر وكانت مسيرة شعبية ضخمة انضم لها الآلاف من قرى ومدن اليمن التي مرت بها المسيرة لمدة خمسة أيام. كان هدف المسيرة هو إسقاط التسوية السياسية والحسم الثوري من خلال الزحف الشعبي على قصر الرئاسة. حينها أصدر السفير الأمريكي تصريحات متشنجة تبرر الإعتداء الأمني العنيف على المسيرة، وهذا ما حدث وسقط حينها 9 شهداء وعشرات الجرحى. في ذلك الوقت التزمت أحزاب اللقاء المشترك بالصمت الخجول ومنع كوادرها في ساحة التغيير راجلي المسيرة من اعتلاء المنصة وعدم امدادهم بمؤونة الليلة من بطانيات وغيرها كعلامة على عدم الترحيب بقدومهم.
عام بالضبط مر على اعتداء دموي آخر أقل دموية لكن دلالاته اشد قسوة، فوزارة الداخلية من نصيب أحزاب اللقاء المشترك التي وصلت للسلطة بفضل ركوبها مسار الثورة باعتبارها صاحبة الشرعية الثورية. بالتأكيد هذا يجعل المشهد أشد إيلاماً من مشهد هجوم قوات الأمن المركزي بقيادة ابن اخ الرئيس السابق علي عبدالله صالح. فلم تكتف قوات الأمن في مسيرة الحياة الثانية بالعنف عبر استخدام غازات مسيلة ودهس بالسيارات تسبب في إصابة أحد المتظاهرين إصابة بليغة وضعته بالعناية المركزة، بل إن الأمن حاصر المعتصمين ومنع وصول أي امداد لهم من غذاء أو بطانيات. واللافت هنا إن قوات الأمن هذه كانت تلتزم الصمت والهدوء مع اعتصامات لمسلحين في ذات المكان وكأن العمل السلمي هو ما يهدد سلم الوطن وليس اعتصام مسلحين. وهكذا يبدو أن الصفة المشتركة بين أحزاب اللقاء المشترك ونظام صالح ليست القمع فحسب، بل كذلك الخشية من العمل السلمي تحديداً والتساهل مع المسلحين.
فلماذا إذن تبدو أحزاب اللقاء المشترك متشابهة إلى هذا الحد من سلطة ثار عليها اليمنييون ولماذا أمضت هذه الأحزاب عامها الأول في الحكم منشغلة بتوظيف كوادرها بينما تعمل بإداء سياسي باهت وربما بائس في بلد يقع تحت وطأة وضع اقتصادي صعب للغاية ووضع أمني شديد التدهور تتآكل فيه سيطرة الدولة على أجزاء البلد؟ قد نعرف هذه الاجابة عندما نعود قليلاً للوراء ونعرف طبيعة هذه الاحزاب السلطوية والبعيدة كلياً عن الشارع باعتبار إن كل ما يجري في اليمن يقع في صالح التراكم التاريخي للقوى الفاعلة برواسبها الثقيلة وليس في صالح التغيير الذي يطمح له شباب الثورة.
أحزاب اللقاء المشترك تحالف يضم سبعة أحزاب يمنية، ثلاثة منها كبيرة والبقية أحزاب صغيرة. فعلى رأسها حزب الإصلاح الإخواني وهو حالة استثنائية في تجربة الاخوان المسلمين في دول الربيع العربي حيث كان لجماعة الأخوان المسلمين نفوذ واسع داخل الدولة اليمنية تضاءل بعد مشروع التوريث الذي بدأ عام 2000. وهذا التحالف فرضته طبيعة نشأة نظام صالح كنظام صد للنظام اليساري في الجنوب. استفادت حركة الأخوان حينها من هذا التحالف وكان نفوذها قوياً في قطاع الأمن والتعليم والجيش، فجهاز الأمن السياسي في اليمن حتى آلان برئاسة غالب القمش الموالي للجماعة وهذا الجهاز له تاريخه القمعي المعروف ضد اليساريين والناصريين أواخر السبعينيات والثمانينيات وكان حينها محمد اليدومي رئيس حزب الإصلاح حالياً نائب رئيس الجهاز مما يوضح بجلاء الطبيعة الإخوانية للتنظيم الأمني الاستخباراتي الوحيد في اليمن حتى تأسيس جهاز الأمن القومي بحجة مكافحة الإرهاب عام 2002. كذلك تحالف علي محسن المعروف مع الجماعات الإسلامية السنية بمختلف تنوعاتها من جهادية لإخوانية. أما التعليم فإضافة للمناهج الدينية المخلة بالتفكير والوسطية التي كتبها الشيخ عبد المجيد الزنداني في مختلف المراحل التعليمية، كان للحزب تعليم مواز ممول من الدولة والسعودية وهو المعاهد العلمية التي كانت ملاذاً للفقراء بحكم تقديمها رواتب الطلاب وكانت مراكز تجنيد هائلة للحزب. يلي حزب الإصلاح من حيث الأهمية الحزب الإشتراكي الذي كان الحزب الحاكم في الجنوب وبعد تعرضه لعملية تكسير عظام قاسية بعد الوحدة تحديداً بعد حرب 94 لجأ الحزب للتحالف مع عدوه اللدود حزب الإصلاح ضد هيمنة صالح وحزبه أواخر التسعينات. ومن ثم الحزب الناصري الذي كان حليفاً للرئيس إبراهيم الحمدي في وقت سابق وتعرض للقمع بشدة أواخر السبعينيات بداية عهد صالح. في الواقع إذا كانت فكرة التحالف تبدو ألمعية وهي تجمع المعارضة لتشكيل جبهة مقاومة ضد هيمنة الفرد من خلال تبني مطالب الناس لكن الواقع جعل منه تحالف أهم سماته وجود عدو مشترك وبعض المصالح التكتيكية البسيطة بين قيادات الأحزاب المنفصلة عن كوادرها.
هنا من المهم معرفة حقيقة لهفة هذه الأحزاب على السلطة التي خرجت جميعاً من عباءتها مثل حزب البعث في عهد الرئيس الأرياني في اليمن الشمالي بين عامي 1967- 1974 ثم الحزب الناصري في عهد الرئيس الحمدي باليمن الشمالي مابين 1974- 1977 ثم حركة الأخوان في عهد الرئيس صالح منذ عام 1987 والحزب الإشتراكي في الشطر الجنوبي. كلها أحزاب استمدت قوتها من السلطة وتضاءلت بمجرد بعدها اوخروجها منها سواء بحكم أنها تعرضت لعملية قمع واسعة كحال الناصري أو عمليات اختراق وتضييق وربما قمع مثل حالة الإشتراكي أو لأنها ترى نفسها صاحبة الحق الوحيد بالسلطة ولا يجوز تجاهلها مثل الإصلاح. هذا ايضاً يبرر هذه الحالة الهستيرية في توزيع المناصب لكوادر هذه الأحزاب حيث تعتبر الوظيفة إحدى أهم أدوات الولاء السياسي، هكذا نفهم أن قوة الأحزاب اليمنية لا تنبع من قوة حضورها في الشارع بل بتتابع وجودها بالسلطة وتوفر أدوات السلطة بيدها. ليس هذا فقط بل إن معظمها صارت تحتمي بhرتكازات متعلقة بالهوية وليس السياسة والإيديولوجيا مثل الحزب الناصري وتعز والحزب الإشتراكي والجنوب وحزب الإصلاح والدين طائفة السنة والقبيلة حيث يرتبط ببعض التحالفات القبلية في الشمال.
هذه الاحزاب " الثورية" تخلت عن الشارع في كل تحرك شعبي وكل انتفاضات اليمنيين ضد الغلاء والتدهور الإقتصادي، ففي انتفاضة عام 1993 تشارك الإصلاح مع حزب الرئيس صالح، المؤتمر، في قمع المتظاهرين وحاول الإشتراكي الاستفادة منها لابتزاز خصومه وليس الاقتراب من المحتجين ومطالبهم. أما في انتفاضات 1997 و 2000 فقد ارتبكت هذه الاحزاب حيث تحدثت بشكل كيدي ومتشف عن السلطة لكنها كانت متخلية كلياً عن الشارع الهائج ومشاكله العميقة. إذن ليس من المستغرب على هذه الاحزاب التي صعدت بفضل الثورة، بأن تقوم قوات الأمن التي صارت تحت إدراتها بقمع محتجين سلميين لايزالون يمثلون التعبير الأقوى لضمير الشعب اليمني الذي اجترح ثورة عارمة قبل عامين استطاعت هذه الأحزاب بدعم دولي وإقليمي الالتفاف على مطالبها وخفض سقف مطالبها من إسقاط النظام إلى إسقاط الرئيس. وهكذا تظل اليمن دولة مدجنة لمصالح الدول النفطية المجاورة.